فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال سيد قطب:

سورة التين:
{وَالتين والزيتون (1) وَطُورِ سينين (2) وَهَذَا البلد الأمين (3)}
تعريف بسورة التين:
الحقيقة الرئيسية التي تعرضها هذه السورة هي حقيقة الفطرة القويمة التي فطر الله الإنسان عليها، واستقامة طبيعتها مع طبيعة الإيمان، والوصول بها معه إلى كمالها المقدور لها. وهبوط الإنسان وسفوله حين ينحرف عن سواء الفطرة واستقامة الإيمان.
ويقسم الله- سبحانه- على هذه الحقيقة بـ: {التين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين}، وهذا القسم على ما عهدنا في كثير من سور هذا الجزء- هو الإطار الذي تعرض فيه تلك الحقيقة. وقد رأينا في السور المماثلة أن الإطار يتناسق مع الحقيقة التي تعرض فيه تناسقا دقيقا.
{وطور سينين} هو الطور الذي نودي موسى- عليه السلام- من جانبه. و{البلد الأمين} هو مكة بيت الله الحرام..وعلاقتهما بأمر الدين والإيمان واضحة..فأما {التين والزيتون} فلا يتضح فيهما هذا الظل فيما يبدو لنا.
وقد كثرت الأقوال المأثورة في {التين والزيتون}..قيل: إن {التين} إشارة إلى طورتينا بجوار دمشق.
وقيل: هو إشارة إلى شجرة التين التي راح آدم وزوجه يخصفان من ورقها على سوآتهما في الجنة التي كانا فيها قبل هبوطهما إلى هذه الحياة الدنيا.
وقيل: هو منبت التين في الجبل الذي استوت عليه سفينة نوح- عليه السلام.
وقيل في {الزيتون}: إنه إشارة إلى طور زيتا في بيت المقدس.
وقيل: هو إشارة إلى بيت المقدس نفسه.
وقيل: هو إشارة إلى غصن الزيتون الذي عادت به الحمامة التي أطلقها نوح عليه السلام- من السفينة- لترتاد حالة الطوفان. فلما عادت ومعها هذا الغصن عرف أن الأرض انكشفت وأنبتت!
وقيل: بل {التين والزيتون} هما هذان الأكلان الذان نعرفهما بحقيقتهما. وليس هناك رمز لشيء وراءهما..أو أنهما هما رمز لمنبتهما من الأرض... وشجرة الزيتون إشير إليها في القرآن في موضع آخر بجوار الطور: فقال: (وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين)..كما ورد ذكر الزيتون: (وزيتونا ونخلا)..فأما {التين} فذكره يرد في هذا الموضع لأول مرة وللمرة الوحيدة في القرآن كله.
ومن ثم فإننا لا نملك أن نجزم بشيء في هذا الأمر. وكل ما نملك أن نقوله- اعتمادا على نظائر هذا الإطار في السور القرآنية-: إن الأقرب أن يكون ذكر التين والزيتون إشارة إلى أماكن أو ذكريات ذات علاقة بالدين والإيمان. أو ذات علاقة بنشأة الإنسان في أحسن تقويم [وربما كان ذلك في الجنة التي بدأ فيها حياته]..كي تلتئم هذه الإشارة مع الحقيقة الرئيسية البارزة في السورة؛ ويتناسق الإطار مع الحقيقة الموضوعة في داخله. على طريقة القرآن...
{لَقَدْ خلقنا الإنسان فِي أحسن تقويم (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أسفل سافلين (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ ممنون (6)}
فأما الحقيقة الداخلية في السورة فهي هذه: {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثم رددناه أسفل سافلين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون}..
ومنها تبدو عناية الله بخلق هذا الإنسان ابتداء في أحسن تقويم. والله- سبحانه- أحسن كل شيء خلقه. فتخصيص الإنسان هنا وفي مواضع قرآنية أخرى بحسن التركيب، وحسن التقويم، وحسن التعديل..فيه فضل عناية بهذا المخلوق.
وإن عناية الله بأمر هذا المخلوق- على ما به من ضعف وعلى ما يقع منه من انحراف عن الفطرة وفساد- لتشير إلى أن له شأنا عند الله، ووزنا في نظام هذا الوجود. وتتجلى هذه العناية في خلقه وتركيبه على هذا النحو الفائق، سواء في تكوينه الجثماني البالغ الدقة والتعقيد، أم في تكوينه العقلي الفريد، أم في تكوينه الروحي العجيب.
والتركيز في هذا المقام على خصائصه الروحية. فهي التي تنتكس إلى أسفل سافلين حين ينحرف عن الفطرة ويحيد عن الإيمان المستقيم معها. إذ إنه من الواضح أن خلقته البدنية لا تنتكس إلى أسفل سافلين.
وفي هذه الخصائص الروحية يتجلى تفوق التكوين الإنساني. فهو مهيأ لأن يبلغ من الرفعة مدى يفوق مقام الملائكة المقربين. كما تشهد بذلك قصة المعراج..حيث وقف جبريل- عليه السلام- عند مقام، وارتفع محمد بن عبد الله- الإنسان- إلى المقام الأسنى.
بينما هذا الإنسان مهيأ- حين ينتكس- لأن يهوي إلى الدرك الذي لا يبلغ إليه مخلوق قط: {ثم رددناه أسفل سافلين}..حيث تصبح البهائم أرفع منه وأقوم، لاستقامتها على فطرتها، وإلهامها تسبيح ربها، وأداء وظيفتها في الأرض على هدى. بينما هو المخلوق في أحسن تقويم، يجحد ربه، ويرتكس مع هواه، إلى درك لا تملك البهيمة أن ترتكس إليه.
{لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}..فطرة واستعدادا.. {ثم رددناه أسفل سافلين}..حين ينحرف بهذه الفطرة عن الخط الذي هداه الله إليه، وبينه له، وتركه ليختار أحد النجدين.
{إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات}..فهؤلاء هم الذين يبقون على سواء الفطرة، ويكملونها بالإيمان والعمل الصالح، ويرتقون بها إلى الكمال المقدر لها، حتى ينتهوا بها إلى حياة الكمال في دار الكمال. {فلهم أجر غير ممنون} دائم غير مقطوع. فأما الذين يرتكسون بفطرتهم إلى أسفل سافلين، فيظلون ينحدرون بها في المنحدر، حتى تستقر في الدرك الأسفل. هناك في جهنم، حيث تهدر آدميتهم، ويتمحضون للسفول!
فهذه وتلك نهايتان طبيعيتان لنقطة البدء..إما استقامة على الفطرة القويمة، وتكميل لها بالإيمان، ورفع لها بالعمل الصالح..فهي واصلة في النهاية إلى كمالها المقدر في حياة النعيم..وإما انحراف عن الفطرة القويمة، واندفاع مع النكسة، وانقطاع عن النفخة الإلهية..فهي واصلة في النهاية إلى دركها المقرر في حياة الجحيم.
ومن ثم تتجلى قيمة الإيمان في حياة الإنسان..إنه المرتقى الذي تصل فيه الفطرة القويمة إلى غاية كمالها. إنه الحبل الممدود بين الفطرة وبارئها. إنه النور الذي يكشف لها مواقع خطاها في المرتقى الصاعد إلى حياة الخالدين المكرمين.
وحين ينقطع هذا الحبل، وحين ينطفئ هذا النور، فالنتيجة الحتمية هي الارتكاس في المنحدر الهابط إلى أسفل سافلين، والانتهاء إلى إهدار الآدمية كلية، حين يتمحض الطين في الكائن البشري، فإذا هو وقود النار مع الحجارة سواء بسواء!
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحاكمين (8)}
وفي ظل هذه الحقيقة ينادى (الإنسان):
{فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين}..
فما يكذبك بالدين بعد هذه الحقيقة؟ وبعد إدراك قيمة الإيمان في حياة البشرية؟ وبعد تبين مصير الذين لا يؤمنون، ولا يهتدون بهذا النور، ولا يمسكون بحبل الله المتين؟
{أليس الله بأحكم الحاكمين}..أليس الله بأعدل العادلين حين يحكم في أمر الخلق على هذا النحو؟ أو..أليست حكمة الله بالغة في هذا الحكم على المؤمنين وغير المؤمنين؟
والعدل واضح. والحكمة بارزة..ومن ثم ورد في الحديث المرفوع عن أبي هريرة: «فإذا قرأ أحدكم {والتين والزيتون} فأتى آخرها: {أليس الله بأحكم الحاكمين}..فليقل..بلى وأنا على ذلك من الشاهدين»..اهـ.

.قال الشنقيطي:

سورة التين:
{وَالتين والزيتون (1)}
التين هو الثمرة المعروفة التي لا عجم لها ولا قشرة، والزيتون هو كذلك الثمرة التي منها الزيت، وطور سينين هو جبل الطور الذي ناجى موسى عند ربه، والبلد الأمين هو مكة المكرمة، والواو للقسم.
وقد اختلف في المراد بالمقسم به في الأول، والثاني التين والزيتون، واتفقوا عليه في الثالث والرابع على ما سيأتي.
أما {التين والزيتون}، فعن ابن عباس رضي الله عنهما (أنهما الثمرتان المعروفتان) وهو قول عكرمة والحسن ومجاهد. كلهم يقول: {التين}: تينكم الذي تأكلون، و{الزيتون}: زيتونكم الذي تعصرون.
وعن كعب: {التين}: مسجد دمشق، و{الزيتون} بيت المقدس. وكذا عن قتادة. وأرادوا منابت التين والزيتون بقرينة الطور و{البلد الأمين}، على أن منبت {التين والزيتون} لعيسى، و{طور سنين} لموسى، و{البلد الأمين} لمحمد صلى الله عليه وسلم.
ولكن حمل {التين والزيتون} على منابتهما لا دليل عليه، فالأولى إبقاؤهما على أصلهما، ويشهد لذلك الآتي:
أولاً التين: قالوا: إنه أشبه ما يكون من الثمار بثمر الجنة، إذ لا عجم له ولا قشر، وجاء عنه في السنة: أنه صلى الله عليه وسلم أهدى له طبق فيه تين، فأكل منه ثم قال لأصحابه: «فلو قلت: إن فاكهة نزلت من الجنة لقلت هذه، لأن فاكهة الجنة بلا عجم فكلوه، فإنه يقطع البواسير وينفع من النقرس»، ذكره النيسابوري ولم يذكر من خرجه.
وذكره ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد، قائلاً: ويذكر عن أبي الدرداء «أهدى إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم طبق من تين» وساق النص المتقدم. ثم قال: وفي ثبوت هذا نظر.
وقد ذكر المفسرون وابن القيم وصاحب القاموس: للتين خواص، وقالوا: إنها مما تجعله محلاً للقسم به، وجزم ابن القيم: أنه المراد في السورة.
ومما ذكروا من خواصه، قالوا: إنه يجلو رمل الكلى والمثانة ويؤمن من السموم، وينفع خشونة الحلق والصدر وقصبة الرئة، ويغسل الكبد والطحال، وينقي الخلط البلغمي من المعدة، ويغذي البدن غذاء جيداً، ويابسه يغذي وينفع العصب.
وقال جالينوس: إذا أكل مع الجوز والسذاب، قبل أخذ السم القاتل نفع، وحفظ من الضر، وينفع السعال المزمن ويدر البول ويسكن العطش الكائن عن البلغم المالح، ولأكله على الريق منفعة عجيبة.
وقال ابن القيم: لما لم يكن بأرض الحجاز والمدينة، لم يأت له ذكر في السنة، ولكن قد أقسم الله به في كتابه، لكثرة منافعه وفوائده.
والصحيح: أن المقسم به هو التين المعروف. اه.
وكما قال ابن القيم رحمه الله: لم يذكر في السنة لعدم وجوده بالحجاز والمدينة، فكذلك لم يأت ذكره في القرآن قط إلاَّ في هذا الموضع، ولم يكن من منابت الحجاز والمدينة لمنافاة جوه لجوها، وهو إن وجد أخيراً إلاَّ أنه لا يجود فيها جودته في غيرها.
فترجح أن المراد بالتين هو هذا المأكول، كما جاء عمن سمينا: ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن.
أما الزيتون، فقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في المقدمة، أن من أنواع البيان إذا اختلف في المعنى المراد، وكان مجيء أحد المعنيين أو المعاني المحتملة أكثر في القرآن، فإنه يكون أولى بحمل اللفظ عليه.
وقد جاء ذكر الزيتون في القرآن عدة مرات مقصوداً به تلك الشجرة المباركة، فذكر في ضمن الأشجار خاصة في قوله تعالى من سورة الأنعام {وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ والزيتون والرمان} [الأنعام: 99]- إلى قوله- {إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99]، وسماها بذاتها في قوله تعالى من سورة المؤمنين {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَاءَ تَنبُتُ بالدهن وَصِبْغٍ لِّلآكِلِيِنَ} [المؤمنون: 20]، وذكرها مع النخل والزرع في عبس في قوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً} [عبس: 27- 29]، وذكر من أخص خصائص الأشجار، في قوله في سورة النور في المثل العظيم المضروب {الله نُورُ السماوات والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المصباح فِي زُجَاجَةٍ الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ على نُورٍ} [النور: 35]. فوصفها بالبركة ووصف زيتها بأنه يكاد يضيء، ولو لم تمسسه نار، واختيارها لهذا المثل العظيم، يجعلها أهلاً لهذا القسم العظيم هنا.
أما {طور سينين}: فأكثرهم على أنه جبل الطور، الذي ناجى الله موسى عنده، كما جاء في عدة مواطن، وذكر الطور فيها للتكريم وللقسم فمن ذكره للتكريم قوله تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور الأيمن} [مريم: 52]، ومن ذكره للقسم به قوله تعالى: {والطور وَكِتَابٍ مُّسْطُورٍ} [الطور: 1- 2].
وقد تقدم للشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في سورة الطور قوله، وقد أقسم الله بالطور في قوله تعالى: {والتين والزيتون وَطُورِ سينين}. اهـ.
أما البلد الأمين فهو مكة لقوله تعالى: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97]، فالأمين بمعنى الأمن، أي من الأعداء، أن يحاربوا أهله أو يغزوهم، كما قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67]، والأمين بمعنى أمن جاء في قول الشاعر:
ألم تعلمي يا أسم ويحك أنني ** حلفت يميناً لا أخون أميني

يريد: آمني.
{لَقَدْ خلقنا الإنسان فِي أحسن تقويم (4)}
وهذا هو المقسم عليه، والتقويم التعديل كما في قوله: {وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا قَيِّماً} [الكهف: 1- 2]، وأحسن تقويم شامل لخلق الإنسان حساً ومعنى أي شكلاً وصورة وإنسانية، وكلها من آيات القدرة ودلالة البعث.
وروى عن علي رضي الله عنه:
دواؤك منك ولا تشعر ** وداؤك منك ولا تبصر

ونزعم أنك جرم صغير ** وفيك انطوى العالم الكبير

وقد بين تعالى خلقه ابتداء من نطفة فعلقة إلى آخره في أكثر من موضع، كما في قوله: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى} [القيامة: 37- 40].
وكذلك في هذه السورة التنبيه على البعث بقوله: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين} [التين: 7].
أما الجانب المعنوي فهو الجانب الإنساني، وهو المتقدم في قوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سواها} [الشمس: 7]، على ما قدمنا هناك، من أن النفس البشرية هي مناط التكليف، وهو الجانب الذي به كان الإنسان إنساناً، وبهما كان خلقه في أحسن تقويم، ونال بذلك أعلى درجات التكريم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء: 70].
والإنسان وإن كان لفظاً مفرداً إلاَّ أنه للجنس بدلالة قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أسفل سافلين إِلاَّ الذين آمَنُواْ} [التين: 5- 6]، وهذا مثل ما في سورة {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 1- 3]، فباستثناء الجمع منه، علم أن المراد به الجنس.
والتأكيد بالقسم المتقدم على خلق الإنسان في أحسن تقويم، يشعر أن المخاطب منكر لذلك، مع أن هذا أمر ملموس محسوس، لا ينكره إنسان.
وقد أجاب الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في دفع إيهام الاضطراب على ذلك: بأن غير المنكر إذا ظهرت عليه علامات الإنكار، عوامل معاملة المنكر، كقول الشاعر:
جاء شقيق عارضاً رمحه ** وإن بني عمك فيهم رماح

وإمارات الإنكار على المخاطبين، إنما هي عدم إيمانهم بالعبث، لأن العاقل لو تأمل خلق الإنسان، لعرف منه أن القادر على خلقه في هذه السورة، قادر على بعثه.
وهذه المسألة أفردها الشيخ في سورة الجاثية بتنبيه على قوله تعالى: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 4]، وتكرر هذا البحث في عدة مواضع، وأصرح دلالة على هذا المعنى ما جاء في آخر يس {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قال مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 78- 79].
{ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أسفل سافلين (5)}
قيل: رد إلى الكبر والهرم وضعف الجسم والعقل.
إن الثمانين وبلغتها ** قد أحوجت سمعي إلى ترجمان

كما في قوله تعالى: {وَمَن نّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الخلق} [يس: 68].
وذكر الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذا القول، وساق معه قوله: {الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم: 54]، وساق آية التين هذه {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أسفل سافلين} [التين: 5]، وقال: على أحد التفسيرين، وقوله: {وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً} [الحج: 5]، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس رواه ابن جرير.
وقيل: رد إلى النار بسبب كفره، وهذا مروي عن مجاهد والحسن.
وقد رجح ابن جرير المعنى الأول، وهو كما ترى، ما يشهد له القرآن في النصوص التي قدمنا، واستدل لهذا الوجه من نفس السورة. وذلك لأن الله تعالى قال في آخرها {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين} [التين: 7]، أي بعد هذه الحجج الواضحة، وهي بدء خلق الإنسان وتطوره إلى أحسن أمره، ثم رده إلى أحط درجات العجز أسفل سافلين، وهذا هو المشاهد لهم، يحتج به عليهم.
أما رده إلى النار فأمر لم يشهده ولو يؤمنوا به، فلا يصلح أن يكون دليلاً يقيمه عليهم، لأن من شأن الدليل أن يتقل من المعلوم إلى المجهول والبعث هو موضع إنكارهم، فلا يحتج عليهم لإثبات ما ينكرونه بما ينكرونه، وهذا الذي ذهب إليه واضح.
ومما يشهد لهذا الوجه: أن حالة الإنسان هذه في نشأته من نطفة، فعلقة، فطفلاً، فغلاماً، فشيخاً، فهرم، وعجز. جاء مثلها في النبات وكلاهما من دلائل البعث، كما في قوله: {اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [الحديد: 20]- إلى قوله- {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ} [الحديد: 20]، وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لأُوْلِي الألباب} [الزمر: 21].
فكذلك الإنسان، لأنه كالنبات سواء كما قال تعالى: {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً} [نوح: 17- 18].
ويكون الاستثناء إلا الذين آمنوا فإنهم لا يصلون إلى حالة الخوف وأرذل العمر، لأن المؤمن مهما طال عمره، فهو في طاعة، وفي ذكر الله فهو كامل العقل، وقد تواتر عند العامة والخاصة أن حافظ كتاب الله المداوم على تلاوته، لا يصاب بالخوف ولا الهذيان.
وقد شاهدنا شيخ القراء بالمدينة المنورة للشيخ حسين الشاعر، لا زال على قيد الحياة عند كتابة هذه الأسطر تجاوز المائة بكثير، وهو لا يزال يقرئ تلاميذه القرآن، ويعلمهم القراءات العشر، وقد يسمع لأكثر من شخص يقرءون في أكثر من موضع وهو يضبط على الجميع.
وقد روى الشوكاني مثله، عن ابن عباس أنه قال، ذلك.
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ ممنون (6)}.
أي غير مقطوع أو غير ممنون به عليهم.
وعلى الأول: فالأجر هو الثواب، إما بدوام أعمالهم لكمال عقولهم، وإما بأن الله يأمر الملائكة أن تكتب لهم من الأجر ما كانوا يعملونه في حال فوتهم من صيام وقيام، وتصدق من كسبهم ونحو ذلك، للأحاديث في حق المريض والمسافر، فيظل ثواب أعمالهم مستمراً عليهم غير مقطوع.
وعلى الثاني: فيكون الجر هو النعيم في الجنة يعطونه ولا يمنّ به عليهم، ولا يقطع عنهم كما قال تعالى: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عقبى الذين اتقوا} [الرعد: 35].
تنبيه:
وهنا وجهة نظر من وجهين: وجه خاص وآخر عام.
أما الخاص: فإن كلمة رددناه، فالرد يشعر إلى رد لأمر سابق، والأمر السابق هو خلق الإنسان في أحسن تقويم، و{أحسن تقويم} شامل لشكله ومعناه، أي جسمه وإنسانيته، فرده إلى {أسفل سافلين}، يكون بعدم الإيمان كالحيوان بل هو في تلك الحالة أسفل دركاً من الحيوان، وأشرس من الوحش، فلا إيمان يحكمه ولا إنسانية تهذبه، فيكون طاغية جباراً يعيث في الأرض فساداً، وعليه يكون الاستثناء، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فبإيمانهم وعملهم الصالحات يترفعون عن السفالة، ويرتفعون إلى الأعلى {فلهم أجر غير ممنون}.
والوجهة العامة وهي الشاملة لموضوع السورة من أولها ابتداء من التين والزيتون وما معه في القسم إلى {لَقَدْ خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أسفل سافلين إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ ممنون} [التين: 4- 6] الآية.
فإنه إن صح ما جاء في قصة آدم في قوله: {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة} [طه: 121]. روى المفسرون أن آدم لما بدت له سوأته ذهب إلى أشجار الجنة ليأخذ من الورق ليستر نفسه، وكلما جاء شجرة زجرته ولم تعطه، حتى مرّ بشجرة التين فأعطته، فأخلفها الله الثمرة مرتين في السنة، وكافأها بجعل ثمرتها باطنها كظاهرها لا قشر لها ولا عجم.
وقد روى الشوكاني في أنها شجرة التين التي أخذ منها الورق. فقال: وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما أسكن الله آدم الجنة كساه سربالاً من الظفر، فلما أصاب الخطيئة سلبه السربال فبقي في أطراف أصابعه.
قال: وأخرج الفريابي وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي وابن عساكر عن ابن عباس قال: كان لباس آدم وحواء كالظفر- وذكر الأثر- وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة قال: ينزعان ورق التين، فيجعلانه على سوأتهما.
وبهذا النقل يكون ذكر التين هنا مع خلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم رده أسفل سافلين إلاَّ الذين آمنوا سر لطيف جدًّا، وهو إشعار الإنسان الآن، أن جنس الإنسان كله بالإنسان الأول أبي البشر، وقد خلقه الله في أحسن حالة حساً ومعنى، حتى رفعه إلى منزلة إسجاد الملائكة وله وسكناه الجنة، فهي أعلى منزلة التكريم، وله فيها أنه لا يجوع ولا يعرى ولا يظمأ وكان ما كان، فدلاهما بغرور وانتقلا من أعلى عليين إلى أسفل سافلين، فنزل إلى الأرض يحرث ويزرع ويحصد ويطحن ويعجن ويخبز، حتى يجد لقمة العيش، فهذا خلق الإنسان في أحسن تقويم ورده أسفل سافلين.
وهذا شأن أهل الأرض جميعاً، {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون}، برجوعهم إلى الجنة كما رجع إليها آدم بالتوبة {فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه}، {ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى}.
وإن في ذكر {البلد الأمين} لترشيح لهذا المعنى، لأن الله جعل الحرم لأهل مكة أمناً كصورة الآمن في الجنة، فإن امتثلوا وأطاعوا نعموا بهذا الأمن، وإن تمردوا وعصوا، فيخرجون منها ويحرمون أمنها.
وهكذا تكون السورة ربطاً بين الماضي والحاضر، وانطلاقاً من الحاضر إلى المستقبل، {فما يكذبك بعد بالدين أليس الله بأحكم الحاكمين}. فيما فعل بآدم وفيما يفعل بأولئك، حيث أنعم عليهم بالأمن والعيش الرغد، وإرسالك إليهم وفيما يفعل لمن آمن أو بمن يكفر، اللَّهم بلى.
{فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين (7)}
فالدين هو الجزاء كما في سورة الفاتحة {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4] والخطاب قيل للرسول صلى الله عليه وسلم.
وأن ما في قوله: فما هي بمعنى من أي، فمن الذي يكذبك بعد هذا البيان، بمجيء الجزاء والحساب ليلقى كل جزاء عمله.
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الحاكمين (8)}
السؤال كما تقدم في {أَلَمْ نَشْرَحْ} [الشرح: 1]، أي للإثبات، وهو سبحانه وتعالى بلا شك أحكم الحاكمين، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال: «اللهم بلى» كما سيأتي.
و{أحكم الحاكمين}.
قيل: أفعل تفضيل من الحكم أي أعدل الحاكمين، كما في قوله تعالى: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أحداً} [الكهف: 49].
وقيل: من الحكمة، أي في الصنع والإتقان والخلق، فيكون اللفظ مشتركاً، ولا يبعد أن يكون من المعنيين معاً، وإن كان هو في الحكم أظهر، لأن الحكيم من الحكمة يجمع على الحكماء.
فعلى القول بالأمرين: يكون من استعمال المشترك في معنييه معاً، وهو هنا لا تعارض بل هما متلازمان، لأن الحكيم لابد أن يعدل، والعادل لابد أن يكون حكيماً يضع الأمور في مواضعها.
وقد بين تعالى هذا المعنى في عدة مواطن كقوله تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} [ص: 28]، الجواب: لا، وكقوله: {أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21]، وفي قوله: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} بيان لعدم عدالتهم في الحكم، وبعده عن الحكمة.
ومعلوم أن عدم التسوية بينهم في مماتهم أنه بالبعث والجزاء، فهو سبحانه أحكم الحاكمين في صنعه وخلقه. خلق الإنسان في أحسن تقويم، وأعدل الحكام في حكمه لم يسوّ بين المحسن والمسيء.
وقد اتفق المفسرون على رواية الترمذي لحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «من قرأ والتين والزيتون، فقرأ أليس الله لأحكم الحاكمين، فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين».
ومثله عن جابر مرفوعاً، وعن ابن عباس قوله: «سبحانك اللهم، فبلى» والعلم عند الله تعالى. اهـ.